فترة التكوين في حياة الصادق الأمين ... دعوة للتأمل
قال ابن اسحق : كانت الأخبار من يهود و الرهبان من النصارى و الكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل مبعثه لما تقارب زمانه .. أما الأحبار من يهود و الرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفة زمانه و ما كان من عهد أنبيائهم اليه فيه .. و أما الكهان من العرب فأتتهم الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع اذ كانت لاتحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم .. و كان الكاهن و الكاهنة لايزال يقع منهما ذكر بعض أموره لاتلقى العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها .
و كانت آنذاك في قرية القداسة - مكة - فئة مع قدر معلوم من التجاوز أن نطلق عليها الأنتلجنتسيا هي أكثر أهلها تشبعا بفكرة القادم الجديد او النبي المنتظر و أعظمها تشوفا اليه و أشدها تشوقا الى ظهوره .
و من بين تلك الفئة السيدة خديجة بنت خويلد التي تجيد القراءة و الكتابة .... و هي من رهط اسد بن عبدالعزى ( من قريش ) الذي ظهرت فيه النصرانية . و تعمق في دراستها بعض بنيه حتى وصل الى رتب منيفة فيها مثل ورقة بن نوفل ( القس ) و عثمان بن الحويرث ( البطرك ) و قتيلة أو أم قتال أخت ورقة ( الكاهنة ) و الثلاثة هم أبناء عمومة خديجة و أرتفعت العلاقة بينهم ( خاصة القس و الكاهنة ) و بينها الى مستوى الحميمية المقرونة بالأختلاط ..
و حظيت خديجة قبل الأسلام بالقاب ذات نكهة دينية لاتخفى على ذي اللب و لاتستبهم على الفطن و لاتستغلق على الأريب فهي : ( سيدة نساء قريش ) أو ( سيدة قريش ) و هذا للتو لا على التراخي يستحضر الى ذاكرتك ما وصفت به مريم بنت عمران في الأسلام ( سيدة نساء العالمين ) .. أن محمدا كثيرا ما كان يقرن بين السيدتين .. يقرن بينهما في المقام و الدرجة في منازل جنة عدن ......
و من الألقاب التي حلت جيدها ( الطاهرة ) و هو لقب تفوح منه ايضا رائحة مسك ديني أو لاهوتي و يذكرك بلقب تحمله مريم أم المسيح لدى النصارى و هو : " معدن الطهر .... " و في القرآن عنها ( ان الله اصطفاك و طهرك على نساء العالمين ) .
و ليس مصادفة اضفاء ذلك اللقب على خديجة بل لعلة كامنة أومكنونة و الا لماذا لم تلقب بالشريفة أو الكريمة او العفيفة مع أنها تحوزها بجدارة ؟ و لماذا هي من دون غيرها فازت بهذا اللقب ؟ .. ان قبل الأسلام أو بعده ؟
و في المسيحية يبدأ التطهير من الداخل أي من القلب و ناشد ابن مريم تبعه أن يحبوا بشدة بعضهم بعضا من قلب طاهر .
خلاصة القول اذن أن لقب الطاهرة تضمخ بعبق ديني أو لاهوتي نفاذ .. و من المستحيل أن تجيء اضافته في حق خديجة مصادفة أو خبط عشواء .
ان اللقبين ( سيدة نساء قريش و الطاهرة ) لهما دالة لاتغيب عن ذهن الذكي اللوذعي .. أو ذلك الذي يقرأ سيرة محمد بعقل يقظ و عين مفتوحة و بصيرة ثاقبة و لب واع و هذا ما نادينا و لازلنا ننادي به .
اذن فاز بنو أسد بسهم وفير من بين فروع قريش بصفة الأنتلجنتسيا فكان من بينهم ( ورقة بن نوفل ) و البطرك ( عثمان بن الحويرث ) و الطاهرة و سيدة نساء قريش ( خديجة بنت خويلد ) .
بيد ان الذي لاريب فيه .... ان خديجة فلجت على الثلاثة الآخرين و بزتهم لأنها امتازت عليهم بخصال و ملكات نفسية افتقروا اليها يأتي في مقدمتها أستشراف المستقبل و الفراسة التي لا تخيب و موهبة الألهام الصادق و غريزة أختيار ( السابق أو الفائز ) و الرهان عليه .. و الصبر العري عن الضروب ( الذي لامثيل له و لا حتى شبيه ) للوصول الى الهدف و تحقيق الغاية و الحصول على المنية ....
فالطاهرة من دونهم لم تنتظر القادم الجديد فحسب .. بل فلت مجتمع مكة و خاصة شبابه و دققت النظر في قوادمه و خوافيه و حدقت في حناياه و لم تتعجل أو تتسرع و صبرت سنوات قاربت الربع قرن حتى أهتدت اليه و بمعنى أدق الى من يصلح لذلك . و هنا ضربت عرض الحائط بالتقاليد الرواسخ رسوخ الجبال بل و حطمتها فقدمت نفسها اليه و مدت هي يدها اليه ولم تعبأ بفارق السن و المال حتى اذا تشيأ الحلم على الأرض و تحول الى واقع انتقلت من مرحلة الفرز و التجنيب و السبر و الأختبار الى مرحلة الأعداد و الشحن و الأمداد و التعبئة و التهيئة و استغرقت تلك المرحلة من عمرها المبارك " خمس عشرة سنة " قدمت فيها تضحيات جسيمة من المال و النفس و البدن حتى أثمرت الشجرة و طرحت أكلها الحلو وآن للطاهرة أن تعلن لأهل مكة :
هاكم ( القادم الجديد ) الذي طال انتظاركم له و شوقكم الية ....." !!
من خلال ماذكره الكاتب الكبير في مدخل كتابه الذي نقلت معظم فقراته نستطيع أن نستشف الدور الكبير الذي لعبته خديجة بنت خويلد و ( أقاربها ) في أختيار نبي أمة العرب بعد أن قرأوا و درسوا و تمعنوا في كتب اليهود و النصارى ( خاصة ورقة بن نوفل ) و بعد أن قامت خديجة الشريفة والمثقفة و العالمة بأحوال مجتمعها بدراسة متأنية و تمحيص و تدقيق ... و من ثم أختارت و قررت و دعمت و أعلنت للعرب : محمد هو نبي هذه الأمة !!!